الساحة الفلسطينية – صلاح سالم
تكشف عشرات القرارات التى تورط فيها الرئيس ترامب، من قبيل الموافقة
الضمنية على قانون قومية الدولة الإسرائيلية، وقرار الانسحاب من المجلس
العالمى لحقوق الإنسان بحجة تحيز أعضائه ضد إسرائيل، وقرارا نقل السفارة
الأمريكية إلى القدس، والانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران وإحراج الشركاء
الأوروبيين بوضعهم فى الزاوية والتصويب على مصداقيتهم، عن مدى ضعف
الحساسية الأخلاقية لدى أقوى رجل فى العالم، ومن ثم عن أزمة قيادة عالمية،
تزداد سفورا منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، غير أنها بلغت اليوم قدرا
من الحدة صار جارحا لظاهرة السياسة بالمعنى الحديث، أى كظاهرة مدنية تأسست
على مثل الحداثة وقيم التنوير، وخضعت لإشراف القانون والتنظيم الدوليين،
وإلهام فكرتى العالمية والنزعة الإنسانية. بل إن التجريس الذى يقوم به
الرجل علنيا لجل حلفائه مطالبا إياهم بدفع مقابل مادى مباشر لاستراتيجيات
الدفاع الإقليمى عنهم، يذكرنا بأحد فتوات الحسينية والدرب الأحمر الأقل
أخلاقية لدى نجيب محفوظ فى ملحمة الحرافيش، ويهدد بعودة عالمنا خصوصا
العلاقات بين الدول إلى حالة الطبيعة، الأقرب إلى حرب الجميع ضد الجميع.
والحق أن نموذج ترامب ليس جديدا، فقد شهد التاريخ السياسى مرارا قادة طرحوا
أنفسهم علي العالم بقوة الحالة الطبيعية، مثلما كان الأمر منذ عصر القبيلة
والإقطاع العسكرى والإمبراطوريات عابرة الأقاليم التى سعت إلى التوسع فى
العالم القديم والتحكم فيما جاورها من مجتمعات مادام أن عوامل القوة
الذاتية كانت قادرة على التمدد والسيطرة. وربما امتلك هؤلاء القادة أفكارا
عن كيفية تنظيم العالم الذى يعيشون فيه، ولكنها كانت أفكارا محافظة: دينية
أو طائفية أو عرقية، لم يكن القصد منها الإلهام ولكن الإغواء، فالأفكار من
هذا الطراز لم تكن أكثر من مجرد غطاء يقوم الحكام بوضعه إما على رءوسهم كي
يبرروا سلطتهم المطلقة أو على سن رماحهم قبل أن يلقوا بها فى صدور
منافسيهم، ليقوم بمهمة التبريد لموتور ماكينة عمليات إنتاج السيطرة
والخضوع، أى حفظ وتأمين الأوضاع القائمة وجعلها ممكنة بتكلفة معقولة، على
الأقل حتى تتغير قواعدها جذريا. أنتج هذا التاريخ، عبر حقبه الطويلة،
مستبدين كبارا من فراعنة وقياصرة وخلفاء وملوك، كما أنتج مصلحين ومؤسسين
وفاتحين كبارا أيضا، أنتج من أسس الدول وعمَّر المدن، ومن خرَّب هذه وأحرق
تلك، وعمم الخراب على الجميع. غير أن التخلف التكنولوجى الساحق، قياسا إلى
عصرنا الراهن، قد أبقى للموت حدودا متصورة رغم قسوته، وللخراب حدودا محتملة
رغم اتساعها، حيث كانت عضلات المجتمع البشرى التى لم تزل رخوة فى مستوى
حكمة التاريخ التى لم تزل نامية.
الضمنية على قانون قومية الدولة الإسرائيلية، وقرار الانسحاب من المجلس
العالمى لحقوق الإنسان بحجة تحيز أعضائه ضد إسرائيل، وقرارا نقل السفارة
الأمريكية إلى القدس، والانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران وإحراج الشركاء
الأوروبيين بوضعهم فى الزاوية والتصويب على مصداقيتهم، عن مدى ضعف
الحساسية الأخلاقية لدى أقوى رجل فى العالم، ومن ثم عن أزمة قيادة عالمية،
تزداد سفورا منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، غير أنها بلغت اليوم قدرا
من الحدة صار جارحا لظاهرة السياسة بالمعنى الحديث، أى كظاهرة مدنية تأسست
على مثل الحداثة وقيم التنوير، وخضعت لإشراف القانون والتنظيم الدوليين،
وإلهام فكرتى العالمية والنزعة الإنسانية. بل إن التجريس الذى يقوم به
الرجل علنيا لجل حلفائه مطالبا إياهم بدفع مقابل مادى مباشر لاستراتيجيات
الدفاع الإقليمى عنهم، يذكرنا بأحد فتوات الحسينية والدرب الأحمر الأقل
أخلاقية لدى نجيب محفوظ فى ملحمة الحرافيش، ويهدد بعودة عالمنا خصوصا
العلاقات بين الدول إلى حالة الطبيعة، الأقرب إلى حرب الجميع ضد الجميع.
والحق أن نموذج ترامب ليس جديدا، فقد شهد التاريخ السياسى مرارا قادة طرحوا
أنفسهم علي العالم بقوة الحالة الطبيعية، مثلما كان الأمر منذ عصر القبيلة
والإقطاع العسكرى والإمبراطوريات عابرة الأقاليم التى سعت إلى التوسع فى
العالم القديم والتحكم فيما جاورها من مجتمعات مادام أن عوامل القوة
الذاتية كانت قادرة على التمدد والسيطرة. وربما امتلك هؤلاء القادة أفكارا
عن كيفية تنظيم العالم الذى يعيشون فيه، ولكنها كانت أفكارا محافظة: دينية
أو طائفية أو عرقية، لم يكن القصد منها الإلهام ولكن الإغواء، فالأفكار من
هذا الطراز لم تكن أكثر من مجرد غطاء يقوم الحكام بوضعه إما على رءوسهم كي
يبرروا سلطتهم المطلقة أو على سن رماحهم قبل أن يلقوا بها فى صدور
منافسيهم، ليقوم بمهمة التبريد لموتور ماكينة عمليات إنتاج السيطرة
والخضوع، أى حفظ وتأمين الأوضاع القائمة وجعلها ممكنة بتكلفة معقولة، على
الأقل حتى تتغير قواعدها جذريا. أنتج هذا التاريخ، عبر حقبه الطويلة،
مستبدين كبارا من فراعنة وقياصرة وخلفاء وملوك، كما أنتج مصلحين ومؤسسين
وفاتحين كبارا أيضا، أنتج من أسس الدول وعمَّر المدن، ومن خرَّب هذه وأحرق
تلك، وعمم الخراب على الجميع. غير أن التخلف التكنولوجى الساحق، قياسا إلى
عصرنا الراهن، قد أبقى للموت حدودا متصورة رغم قسوته، وللخراب حدودا محتملة
رغم اتساعها، حيث كانت عضلات المجتمع البشرى التى لم تزل رخوة فى مستوى
حكمة التاريخ التى لم تزل نامية.
وفى الحقبة الحديثة من تاريخنا، حيث تكلست بنية الإمبراطوريات العسكرية،
وتفككت المجتمعات الرعوية الإقطاع، وانتهى زمن النبلاء والأقنان، ليُولد من
رحمها جميعا دول وطنية / قومية صار أهلها مواطنين لا رعايا، ومن ثم ولد
الأدب السياسي الحديث ودار الجدل حول دور «الإنتلجنسيا» تلك الطبقة المثقفة
المناضلة القادرة على نشر الوعى الثورى وقيادته. كما ولدت التنظيمات
الطليعية/ الحزبية القادرة على تسلُّم السلطة حال نجاح الثورة كما كان
اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية، وصولا
إلى نخب الحكم النازية والفاشية، التى ربما كانت هى آخر الحماقات الكبرى
التى نالت من حكمة تاريخنا. فى هذا السياق بدت النزعة العالمية ممكنة،
والنظام العالمى حقيقة نامية، واستحال التنظيم والقانون الدوليان حقائق
راسخة، صارت تسابق فى مسيرة صنع الحكمة التاريخية تلك المسيرة الموازية أو
المضادة فى تنمية عضلات القوة التكنولوجية والصناعة العسكرية، بل إن لحظة
الذروة فى عبث عضلات القوة بالمصير الإنسانى إبان الحرب العالمية الثانية،
هى نفسها اللحظة التى ولد من رحمها التنظيم الدولى الأكثر تعبيرا عن حكمة
التاريخ أى هيئة الأمم المتحدة، ومن توابعه المجلس العالمى لحقوق الإنسان،
تجسيدا لمثل مشروع التنوير الذى بلغ ذروته مع كانط أكمل نقده النظرى للعقل
بنقد عملى أنتج مفهوم الواجب، كان بمثل إعادة تأسيس للأخلاق الإنسانية،
توطئة لمشروعه السلام الدائم، الذى رآه أملا للإنسانية، يعتمد تحقيقه على
إرساء مثل العدالة الدولية بين الدول، وقيم الحرية داخل بين الناس داخل
الدولة.
غير أن نهاية الحرب الباردة وغياب الصراع الكبير الأيديولوجي حول نظام
العالم، وما يستثيره من جسارة ومثالية وخيال، قد أفضى إلى ترك المجال واسعا
والفضاء رحبا للصراعات الصغيرة حول الحسابات المادية والمشاكل التقنية من
قبيل كيفية إشباع الرغبات المحمومة للمستهلكين؛ خصوصا وقد توارت التيارات
المناهضة للرأسمالية بعد هزيمة الشيوعية، وتحول اليسار الأوروبى عن أحلامه
الكبيرة فى تغيير مجتمعاته نحو قيم العدالة والإنصاف، وتواضع مطالباته على
نحو جعله نفعياً وعملياً يمارس السياسة فقط باسم الواقعية. وأخيرا ذبول
اليسار الثقافى وانطواؤه على نفسه، وبالذات مع أفول مدرسة فرانكفورت برحيل
المؤسسين الكبار خصوصا أدورنو وهوركهايمر وماركوزا حتى بدا يورجن هابرماس،
من الجيل الثانى لها، عصفورا وحيدا لا يكاد يصنع ربيعا حقيقيا. ومن ثم بدا
العالم فقيرا حقا، حيث انتهى عصر الأفكار الكبيرة وفتح الباب أمام صعود
الأصوليات الدينية، ومع انكفاء الجيش الأحمر والتحدى السوفيتى ولد تنظيم
القاعدة، وبدلا من عصر الحروب النظامية الكبرى سادت تكتيكات حرب العصابات
بدءا من أفغانستان ضمن الصراع الكبير وصولا إلى داعش فى العراق على أنقاض
الصراع الكبير وفى خضم الصراعات الصغرى. وفى موازاة العولمة الرأسمالية
تعولمت الظاهرة الإرهابية، وبديلا عن ستالين المرعب صار هناك بن لادن
العبثى.
لقد بات النظام العالمى أسيرا لقادة دون مستوى تحدياته، لم تعد الأفكار
الكبرى تلهم أغلبهم، فلا الشعبوية الأوروبية اليوم تمثل كانط بأى حال، ولا
الرئيس ترامب ينتمى بأى وجه إلى عصر العقل الأمريكى كما تمثله توماس بين
وبنيامين فرانكلين، أو لتقاليد المقعد الرئاسي الذى شغله سلفا جورج واشنطن
أو جون آدمز الأب عن توماس جيفرسون ناهيك عن أبراهام لنكولن وإيزنهاور، أو
حتى السيد باراك أوباما. ولهذا يبدو عالمنا كله، وليس العربى فقط، مصلحة
الإنسانية كلها لا مصالحنا وحدنا، بحاجة إلى إعادة تأسيس مثل الحداثة
السياسية وقيم العدالة الكونية الكامنة فى التيار الأساسى من مشروع التنوير
الغربى، وإلا عانى التاريخ انحرافا شديدا نحو جسد تتضخم عضلاته وعقل تضمر
مبادئه.